“أبو الجالية” في المكسيك
قبلان المكاري هو من مشاهير اللبنانيّين في المهجر. من أولئك الروّاد الذين بلغوا أعلى مراتب النجاح في حقل الصناعة بعدما لقي في مطلع غربته عقبات وصعوبات، تجاوزها مُحَققاً مكانةً إقتصاديّة عالميّة. فكان من البناة الأوائل في ملحمة الهجرة
غادر لبنان إلى ديار الغربة سنة 1908، في عداد القافلة اللبنانيّة الثالثة (الأفكار، كانون الأوّل، 1949، العدد 481). نزل أرض المكسيك المضيافة. وراح يعمل كادحاً بما عُرف عنه من ثبات ونشاط وصبر
مجلّة Juenes التي كتبت عنه بأعجاب ذكرت أنّه بعد تسع سنوات من هجرته، ومن تعاطي التجارة وسواها من الأعمال، إنتقل سنة 1918 إلى ولاية يوكاتان (صدى الشمال، 14 كانون الثاني، 1953، العدد 1773). وفي عام 1920 أنشأ، بالشراكة مع جوزي ماريا كاسترو، في ماريدا مصنع ” بسان خوان للحبال “
وقد كان حينذاك، يفتقر للمال. لكن حدّة ذكائه قادت خطاه. فإستخدم محرّك سيّارة “فورد” لتحريك الآت مصنعه الجديد، فأخذ مصنعه تقدّم إلى أن أصبح الأوّل من نوعه في أميركا اللاتينيّه، بأدواته ومعدّاته وأجهزته، وبعمّاله الذين بلغ عددهم ألف وخمسمائة. وبإنتاجِ يوميّ قُدِّر بأثنين وعشرين ألف كيلو من القنّب وقد اشرف على مصنع ” إندَستريا ” التابع لحكومة يوكاتان، وجعله، بما لديه من خبرة، ينتج عشرةٍ الآف كيلو من القنّب يوميّاً، بعمّاله الخمسمائة. فضلاً عن إمتلاكه خمسين سهماً في مصنع ” سان كريستوفال ” الذي راح ينُتج يوميّاً عشرة أطنان من القنّب، بعدده المماثل من العّمال
ولتأمين إنتاج هذه المصانع أنشأ وكالات له في مكسيكو العاصمة، وفيراكروز، ووادي الحجارة، وفي ثغر تمبيكو. كما كان له وكلاء معتمدون في الولايات المتّحدة الأميركية، كندا، روسيّا، فرنسا، إيطاليا، وفي الأميركيّتين الوسطى والجنوبيّة
وبتوسيعه دائرة أعماله أسَّس المزارع تربيةً للمواشي في تيزمان (يوكاتان). وفي فلوريدا، وسان سلفادور، مُجوّداً تربيتها وموفراً للشعب المكسيكيّ ما يحتاح إليه من لحوم بأسعار متهاودة
وفي عام 1946 أسّس قبلان المكاري، نزولاً عند رغبة الحكومة المكسيكيّة، مصنعاً للسكّر مجّهزاً بأحدث التجهيزات، منتجاً الف طنّ يوميّاً. وقد إختار لبنائه غابة كثيفة شَقّ فيها الطرقات، وبَنَى البيوت والمدارس، وحفر أربعة عشر بئراً للريّ والإنارة، وحوّل الغابة إلى مدينة حديثة فيها ما في المدن من مظاهر التمدّن
وبعد إنجازه للمعمل وقف جهوده على بناء مستشفى للتوليد، ومستوصف، ومدرسة للتعليم الإبتدائيّ والتكميليّ، ومطعم لأبناء العمال، وصغارهم مُطلقاً عليه إسم “لاخويا” أي الجوهرة. وقبل إنشاء المصنع كان العمّال في ” شمباتون ” يتسلّقون الجبال والتلال لجمع الصمغ من أجل صناعة العلوك ، فَيَتيهون في المجاهل، وينقطعون عن عائلاتهم شهوراً ثم تبدّلت أحوالهم جذرّياً بعد تزويد قبلان المكاري المصنع بسيّارات راحت تُقلّهم من منازلهم إلى مراكز أشغالهم، وتعود بهم مساءً إلى بيوتهم
وقد أكمل تَوَسُّعَه في أعماله فأضْحى شريكاً في مصنع ” كلوبه ” للنسيج الذي كان يُعتبر أحدث مصانع المكسيك، وفي مصنع أخر للنسيج في ” ساده لكسو ” وفي مصنع ثالث للنيلون، وفي ثلاثة مصانع أخرى في مكسيكو العاصمة. فيما راح يَخُصّ الأطفال بعطفٍ خاص بإطعامه 270 طفلاً يوميّاً، وتبرّعه بالأموال لملجأ الأطفال المشرّدين الذي كانت تشرف عليه عقيلة المخرج السينمائيّ اللبنانيّ ميشال زخريّا

وأعمال قبلان المكاري الخيريّة على العموم، اكثر من أن تُحص سواء في وطنّه الأوّل، أم في وطنه الثاني
وقد خصّ مسقط رأسه زغرتا كما خصّ إهدن، بطائفة من المشاريع الخيريّة العمرانيّة والمساعدات الماديّة السخيّة (جريدة العمل في 27/12/1951)
ففي زغرتا أنشأ جناحاً كبيراً بطابقين في مدرسة زغرتا للذكور، أي في مدرسة مار يوسف (تكميليّة الأب سمعان الدويهي حاليّاً)، وطابقاً في مدرسة البنات (مدرسة الراهبات الأنطونيّات). كما ساهم مساهمة مرموقة في تغطية نفقات ” شارع المغتربين ” في إهدن الذي دُشّن عام 1950. عدا مساعداته ومعوناته للجمعيّات، وللعائلات المستورة. وقد عهد عام 1951 إلى نسيبه الوزير والمؤرّخ جواد بولس بشراء عشرين طنّ من القمح وزّعها على فقراء زغرتا. (الرائد في 31/1/1951)
كما حرص، عامذاك، على إنشاء مدافن عموميّة لزغرتا، في خراج كفرحاتا. مركّزاً جهوده على تحقيق حلم طالما راودها بتشييد كنيسة كبيرة

فتبرّع ببناء كنيسة مار يوحنّا المعمدان مؤلفّاً، لهذا الغرض، لجنة خاصة، اختارت تصميم المهندس غاستون حبيب من بين التصاميم المعروضة. وقد إستغرق تشييد الكنيسة وقتاً طويلاً (1950-1957) بمساحة تبلغ ثمانية وأربعين متراً طولاً، وواحداً وعشرين متراً عرضاً، وثمانية عشر متراً إرتفاعاً عن وجه الأرض. وببرج يبلغ إرتفاعه ثمانية وخمسين متراً عن الأرض، مساحته خمسة وعشرين متراً مربّعاً. على عقار تبلغ مساحته ستّة الآف وأربعماية مترمربّع. وقدّرت اكلاف المشروع بما لا يقلّ عن النصف مليون ليرة لبنانيّة، حينذاك، وتوّج برسوم الفنّان الإهدني، العالميّ الشهرة، صليبا الدويهي، الكنسيّة الخالدة

وإعترافاً بفضله اطلقت ” جمعية النهضة الإهدنيّة ” حملة لإجراء إكتتاب يشمل إخوانه لبنانيّي المكسيك والمهجر وزغرتا، جمعاً للمبلغ اللازم من أجل صنع تمثال نصفيّ له يخلّد ذكراه، تمّ وضعه في باحة الكاتدرائيّة، عام 1957

وقد أطلقت على قبلان المكاري ألقاب عديدة: ملك القنّب، أمير السكّر، أب الفقير، رفيق العاجز، أخ اليتيم (السجل الذهبيّ اللبنانيّ الممتاز لعام 1950، الجزء السادس، كمال أمين قليلات)، الاّ ان جريدة البيرق (15/7/1950) نقلت عن النائب والوزير الراحل نصري المعلوف قوله انه سمع في المكسيك أنّهم كانوا يُطلقون على الشيخ قبلان لقب ” أبو الجالية ” لأنه يعمل الخير للجميع.
محسن أ.يميّن
“ZghartaPedia”