ميشال زاده

السبّاق بمطعمه

المُجلّي بِنَايِه

مع آخر أعوام القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1894، جاءت اللحظة التي كان ينتظرها ميشال زاده المعروف ب”أبو ريمون”. فالأرض التي ورثتها زوجته يوسفيّة بو قسّوم عن أهلها، على ضفاف نهر رشعين، في المرداشيّة، ستدفعه الى التفكير بتأسيس مطعم، في جيرة المياه. ذهاباً مع القول الشائع بأن “شريك الماء لا يخسر”. مع ان خطوة كهذه، في تلك الأزمنة المنسيّة، لم تكن تخلو من المجازفة، على المستوى الماديّ، فإن مهارته في العزف على الناي التي حوّلته إلى بلبل صدّاع في حفلات الزهو والسرور، وإلمامه بالزجل، ومخالطته لأهله، وخفّة ظلّه، ستشكّل عوامل مساعدة في إستقطابه للرّواد، وفي إدارته لمطعمه. فسارت الأمور بلا عسر، والمطعم يجتذب الزبائن، من قريب وبعيد، ما قاد خطوات سيّد درويش إليه، عام 1913، في أعقاب زيارته لمدينة حلب. وما سيجعل منه، في وقت لاحق، المكان المفضّل لموظّفي شركة نفط العراق (الآي. بي.سي)، في حفلاتهم وعشاءاتهم، خلال عطلات نهاية الأسبوع، والأعياد. كما ستُنظّم فيه، حيناً، الحفلات المحلّية لإنتخاب ملكات الجمال

  ومابين التاريخين، تحرّكت مشاعر ميشال زاده عند نشوب الحرب العالمية الأولى، وإنتشار المجاعة، وتفشّي الأوبئة، في أوساط القوافل البشرّية القاصدة زغرتا، سَعّياً إلى اللقمة، وطَلباً للإغاثة. وراح يمدّ يد العون للشرطيّ البلديّ، قبلان كرم المعروف ب ” قبلان البوليس “، في دفن ضحايا المجاعة، قبل ان ينضم إليها، لاحقاً، قبلان المصري، ومخائيل الزلّوعا مشكّلين فريق عمل دائم الاستنفار، في مواجهة الإبادة الجماعيّة. فأثار زاده دهشة عارفيه لأنه لم يكونوا يتوقعون أن تدبّ الحماسة في صدر شخص يعيش عيشة ليّنة، حين كانت رياح الزمن ساكنة، ان يقوم بهذا المجهود الإنساني الخارق، بدل الإكتفاء كسواه بالتفرّج، والتفجّع

  بعودة الحركة إلى المطاعم، في عهد الأنتداب، وفي عدادها مطعمه، عاد زاده إلى إجتذاب الزبائن، وإلى الفوز بمعّدل متصاعد من الحفلات. وسيعرف عنه صنعه لنايات من قصب كان يُجلب من مجرى نهر رشعين، للأولاد اللاهين قرب طاحون المرداشّية. والموسيقي، كميشال زاده، الذي يعيش في مكان كالمرداشّية، يستشعر الإيقاع من الهواء. وسيكون “أمير الناي” سركيس باسيم، أكثر تلامذته لمعاناً

  وحين ستمتدّ إليه أصابع الموت، في أواخر نيسان سنة 1938، وبتلاشىِ آخر الحانه، سينظّم تلامذته، برئاسة سركيس باسيم، الذي كان قد قطع شوطاً في إحراز الشهرة، جوقة من حول نعشه، في مشهدٍ لافتٍ للأنظار، تقدم الموكب المهيب، والمشيّعين الكُثُر. ودّعوا خلاله أستاذهم بأنّات الناي . فكان المنظر، بحسب ما كتبته جريدة “صدى الشمال “، يُفتّت الأكباد، قبل أن يتولى الأب اللعازاريّ يوسف علوان تأبينه، تأبيناً بليغاً، مؤثراً ثمّ دفن بين الألحان والأشجان

وقصبة “أبو ريمون ” التي سكتت، وفقاً ل” الصدى “، أشجى خرسها جريدة “الرقيب ” التي ذهبت الى التذكير بأنها كانت موضوعاً ” لشعراء الزجل المحلّقين (الأربعاء  4 أيار 1938) فكم كفروا لأجلها ، وكم بلغوا شطط القول وحقاً لصوتها الناعم، البعيد الأثر. وهل هناك كفر وشطط أكثر من قول الزجّال علي الحاج

“قصبة لما بتضرب مارش/ كل العالم يحتفلو/ بترقّص الله ع العرش/ وجبرايل يزقفلو “

” الرقيب ” التي عزّت به،  طالبةً له الرحمة، تَمّنت لو “ناياً في السماء” يكون.

 وقد بكاه نجله الشاعر ريمون زاده بقصيدة ختمها بالقول

“بمودّة الخّلان ساكن في العصب/ كل البشر تبكيك يا ربّ القصب/ بكيَت عليك وناحت عواد الطرب/ بحياة ربّك عود لينا يا أبي/ بجدّد حياتي بس عيني تلمحك”

محسن أ.يميّن 

“ZghartaPedia”