ميلاد يميّن

روُى جسّمها الباطون

وأخرى في حضن الورق

شهر كانون الأوّل الذي حمله إلى الحياة (1932)، وأعطاه الاسم: ميلاد، هو عينه حمله إلى الله (2007)، وإختلطت أنفاسه الأخيرة بآخر أنفاس كانت تلفظها السنة المولّية، بعدما نال منه التعب. فمهنته كانت تستدعي منه تحمّل مشقّة متابعة الورش نهاراً، والسهر لإتمام دراساته وتصاميمه ليلاً. وهو كان ممّن لا يحبّون التخفيف عن كاهلهم، بل يأخذون الدنيا بصدورهم وحدهم، ولا يطمئنون بالاً إلاّ إذا رأوا عجلة العمل تدور كما يجب، وكانوا هم وراء الإشراف على حسن سيرها، وسلامة دورانها

   حين تقّدم المهندس الراحل ميلاد يميّن بطلب ترشيحه للإنتخابات النيابيّة عن دائرة زغرتا، عام 1964، أحدث صدمتين دفعة واحدة: أولى كان لا بدّ أن يتسبب بها ترشحه من خارج النادي التقليديّ لمرشحي منطقته. وثانية نجمت عن تضمينه برنامجه الإنتخابي مشروعاً لإنشاء سدّ لمياه نبعيْ مار سركيس ومار عبدا أخرجه عن الطابع الشعاراتي المعهود. على أن يُستفاد من هذا السدّ، صناعيّاً، بتوليد الطاقة الكهرومائية. وزراعيّاً عبر حلّ مشكلة الريّ المزمنة، سواء للأراضي المحيطة، أو حتى لأراضٍ أكثر بعداً. وسياحيّاً، من خلال ما سيتمّ إنشاؤه من منتجعات حول البحيرة المفترضة التشكل. هذا إضافة إلى الإعتماد على السدّ كطريق عبور من محلّة الدواليب إلى كفرصغاب

يومها إعتبر العديد ممّن رأوا تصميم يميّن لمشروعه ملصقاّ على الجدران، أو مجرّد مراودة فكرة كهذه لذهنه، حلماً من أحلام اليقظة سوى أن من يتاح له تقليب أعداد جريدة “صدى الشمال”، لصاحبها المحامي فريد أنطون، قد يكتشف أنّ ثمّة في أوساط أهالينا، من كان يرفع صوته مطالباً، منذ العشرينيّات والثلاثينيّات في القرن الماضي، بعدم ذهاب ثروتنا المائيّة  هدراً في بطون الوديان. وهو الضرر الذي لا يزال، للأسف، ساري المفعول إلى يومنا هذا

   لذلك فعندما أطلّ المهندس ميلاد يميّن بمشروعه لم يكن يتعدى نطاق ترجمة مطلب عام فُقد الأمل بتنفيذه علىَ مرَّ الأعوام، وبإستباقه بفكرته لما بني من سدود أثبت كم كان محقّاً بتبنّيه هذا المطلب التنموي لزغرتا-الزاوية

  في زغرتا كانت ولادة ميلاد يميّن، في 20 كانون الأوّل 1932. تعلّم في مدرسة الفرير في طرابلس، ثم إنتقل إلى بيروت لمتابعة تحصيله العلميّ في الجامعة الأميركيّة، لتنتهي في باريس، في المدرسة الوطنيّة الفرنسيّة للجور والطرقات، حائزاً شهادة الهندسة، عام 1960

ولم يسبقه في إختصاصه هذا، في الهندسة المدنيّة، سوى قلّة في لبنان، أبرزهم الرئيس ألفراد نقّاش

وهو كان قد أنهى فترته الإختبارية في العمل في فرنسا  في “الشركة العامة للتعّهدات” يوم إستدعاه زميله في الدراسة، في باريس، المهندس شفيق محّرم الذي كان مستشاراّ فنّياً للرئيس فؤاد شهاب، إلى لبنان، للمثول  أمام رئيس الجمهورية، بغية إستطلاع إمكانية إنضمامه إلى مكتب هندسيّ كانت النيّة منصرفة إلى إنشائه. يومها قابل المهندس يميّن الذي لم يمضي سوى القليل على تخرّجه، الرئيس شهاب، في القصر الجمهوريّ، في زوق مكايل، ووافق على الإنخراط في المكتب المذكور، متخلّياً عن الإقامة في العاصمة الفرنسيّة، رغم إقترانه بفرنسيّة (ماريز لوكلير). فراح إسمه يرتبط بما تعاقب بناءه من جسور وطرقات ومبانِ. من الجسور الثلاثة الأولى له في لبنان، والأخيرة على أوتوستراد الضبيّه-المعاملتين المنشأ آنذاك (ب1 ب2 ب3)، وبخاصة جسر الكازينو الذي إسترعى الإنتباه العام بوصفه أوّل جسر معلّق في لبنان يقوم على شكل قوس من الباطون، دونما أعمدة. هذا الجسر الذي إمتنع الشيخ بيار الجميل الذي كان وزيّراً للأشغال العامة آنئذ عن تدشينه قبل عبور شاحنات عدّة محمّلة أتربة وحجارة لإمتحان قدرته على الصمود، والتحّمل. وعادت الدولة اللبنانيّة خصّته بطابع بريدي، إحتفاء منها بهذا الإنجاز الهندسي الملفت. مروراً بسائر الجسور التي صممّها ونفّذها (كجسر الأوّلي في صيدا)، أو إكتفى بتنفيذها (كجسور نهر الكلب)، وهي جسور موزّعة في المناطق اللبنانيّة كافةً، وتبقى شهادات حيّة على مهارته المهنيّة التي جرت مع الدم في عروقه

برغم تعرّض قسم واسع منها للقصف خلال جولات الحرب المتعاقبة في لبنان، وفي الأخص “حرب تموز” (2006)، وما خلّفته من دمار واسع النطاق

  وكان المسلك الغربي، من جسر الكازينو، الذي تمّ التفاوض معه، في الأشهر الأخيرة من حياته، من أجل ترميمه، قيد الترميم عند وفاته.

وذيوع صيته سييؤدّي إلى توسعة أطر أعماله على نحوِ تعدّت معه لبنان إلى العراق وسوريا. حيث كان أحد المشاريع التي تعهّد بتنفيذها في دير الزور أشغاله قيد الإستكمال، حين مفارقته الحياة

  في إهدن ترك ميلاد يميّن أثراً معمارياً ملفتاً بننائه: “قصرالنجوم” (مطعم أوتيل أبشي) على شكل قبّة مستديرة يبلغ قطرها 24 متراً، دون أي عمود في وسطها. ممّا أضفى على شكلها الخارجيّ طابع الصحن الطائر، وعلى داخلها جماليّةً وسِعَةً لا مثيل لهما.

    أمّا في زغرتا فآخر أعماله كان تدعيمه للبناء الجديد الخاص بعلاج الحالات الطويلة الأمد التابع لمستشفى سيّدة زغرتا 

    بقي الحلم الذي لم يتمكّن من تحقيقه المتمثل في سعيه لتدعيم كاتدرائية مار جرجس في إهدن التي كانت جدرانها تتعّرض لتصدّعات متزايدة، واضعاً ما يلزم من دراسات هندسيّة، مقدّماً الإقتراحات، حاثاً على تدعيمها، وإنقادها ممّا هي فيه. خصوصاً أن جدّه بولس كان توّج، عام 1898، هذه الكنيسة بواحدة من أجمل القبب الكنسيّة في لبنان، إن لم تكن الأجمل على الإطلاق

    والأمر الذي يؤسف عليه، بعد ملاقاته وجه ربّه، هو ضياع الخرائط التي وضعها لمشروع السدّ في إهدن، خلال الحرب، في مكتبه الكائن في بناية الشويري، في كورنيش المزرعة-بيروت، مع ما ضاع من موجودات مكتبه

له بالفرنسيّة كتاب “فرائديّة” لصادر عام 2001، وهو عبارة عن دعوة لإعادة خلق الذات عبر عقلنة حّرة للمحيط الثقافي، وكتاب ثان حال موته دون إنجازه

فترك أدواته الهندسية، و قلمه الذي كان يسيل

محسن أ.يميّن 

“ZghartaPedia”