“أمّ جواد” عاقله

إذا كانت تجربة “باتيسيري آنجيلا” في زغرتا –إهدن تعتبر نموذجاً من نماذج الصناعات الناجحة، فإنّ هذه التجربة تدين بنجاحها، بلا أدنى ريب، إلى “أم جوّاد” التي كانت وراء السعي إليها، ووراء خوض غمار العمل اليوميّ  الذي انخرط فيه أفراد أسرتها تباعاً، واحداً بعد آلاخر، ملتحقين بها، في كفاحها المضني، من أجل تحقيق النجاح وكسب اللقمة الحلال بعرق الجبين، وضمان عيش أفضل.

   وإذا شئت ان تتقصّى أمر السيّدة نهاد نايف المكاري، أرملة بربر توفيق عاقله التي غلبت كنيتها: “أم جوّاد” على سائر التفاصيل، لدى معظم الناس، في تصميمها على العيش من عمل منتظم وَجَدَت نفسها مهيّاُه لأدائه، غير مبالية بما ستلاقيه من صعوبات، وتتحمّله من تعب، سرعان ما ستكسبها الإحترام الخاص الذي يكنّه له مجتمعها، وودّه وتقديره، فهاك حكايتها.

  وهي حكاية ثَقُل على نفسها، في أوّل الأمر، إعتبار أنهّا إهتدت، من خلالها، إلى طريق جديد تسير عليها في حياتها، قبل أن ينضمّ إليها أفراد أسرتها، لتنتقل اليوم إلى حفيدها شربل بدوي عاقله مهمّة مواصلة السير على دروب النجاح.

صحيح ان السيّدة نهاد كانت تتّكل، منذ البداية، على ربّها، وعلى نائقتها الخاصة، منذ إنطلاقها في العمل في مطبخ “أوتيل بالاس”، في إهدن، حيث سيخفق قلبها لزوجها، سائق سيّارة الوزير الراحل والمؤرّخ جوّاد بولس، وحيث سيفرد لها، ولعائلتها الناشئة، جناح خاص، لتمضية الصيف، بتوصية من عقيلة “الأستاذ جوّاد” السيّدة آنجيل صوايا. الا أنها ستزداد، يوماً بعد يوم، خبرة في مجال الطبخ بعد ما تمنّت عليها السيّدة ماري ليشع، زوجة الشيخ فريد بولس، الأفادة من تجربة طاهي الأوتيل:” الإسطه قزحيّا”، من أجل الإلمام بفنّ الطبخ، وبمكوّناته ومقاديره، عبر إلقائها نظرة فاحصة على كلّ ما كان يقوم به.

  (في المعمل الأول بين التل والساحة- بعدسة الروائي جبّور الدويهي)

وكثيراً ما فكرت بها، بعد ذلك، تفكيراً مقروناً على الدوام بالسرور، والإعتراف بالجميل.

الشعور بالجميل عينه سيتكرّر، في مراجعتها للماضي، بعد عودتها وأسرتها من بيروت الى زغرتا، عام 1969، واستقرارها في “حيّ كرم التين”، تجاه جارها المربّي الراحل باخوس الدويهي، وزوجته السيّدة ليلى، وما لقيته من تشجيع منها، ومن تطوّع لمساعدتها. وهي اليوم تتذكّر، بكثير من الحنين، حين خطر لها أن تُعدّ قالب حلوى، بطبقات ثلاث، للإحتفاء بأوّل قربانة إبنها بدوي. قالب أذهلها خطفِه لإنتباه كل المهنّئين من الجيران، ومن أهل الحي. ما حمل إحدى صديقاتها على مطالبتها بإعداد قالب مماثل لنجلها، في المناسبة عينها وتكر من ثم السحبة. الأستاذ باخوس الذي لاحظ تردّدها، حثّها على حسم أمرها، وراح يجود عليها بالوقت، ماداً لها يد العون بتأمين شوالات السكر والطحين من طرابلس، بسيّارته البيجو 404، البيضاء اللون، وزوجته ليلى لبثّ الخبر، حيثما أمكنها ذلك.

ومن الغريب أنّ كلّ ما ظفرت به “أمّ جّواد” من الثناء والمديح، يومئذ، قوبل، في المستهل، بممانعة زوجها. وقد مرّ وقت ثقيل قبل أن يقتنع بمباركة عزمها، وتصميمها، وإندفاعها، ومثابرتها، ويلبّي نداء الحرفة. 

“أم جوّاد” التي شرعت في خفق البيض والطحين يدوّياً، سرعان ما راحت تستعين بماكينة “مولينكس” إشتراها “أبو جوّاد” بالتقسيط من محلاّت بكداش الكائن في شارع فردان، في بيروت، لا تزال السيّدة نهاد تحتفظ الى اليوم بها، كتذكارٍ عزيز من زمن جميل مضى. زمن التأهب للمضيّ في السبيل الذي سيستغرق شطراً واسعاً وثميناً من العمر، وسيستدعي منها أن تبذل من ذات نفسها كلّ ما في طاقتها، وان الناس كذلك لن يخذلونها، ولا ثقتها بنفسها ستفعل.

وهي لن تلبث أنّ تنتقل من البيت إلى أوّل محلّ ستطلّ منه “باتيسيري آنجيلا” حاملة إسم إبنتها الوحيدة (1970). حالّة محلّ سلفها طنوس عاقلة، المزيّن الرجّالي، عهدئذ، صاحب مكتب السفريّات، بعد ذلك، الذي قرّر في ذلك الحين الهجرة إلى أوستراليا، والإلتحاق بأشقائه بطرس، شهيد، وسركيس. وبحلولها في المحل الذي كان يشغله (ملك أبو حليم الجعيتاني ما بين شارعي التلّ والساحة في زغرتا) ستقسمه إلى نصفين بستارة: أوّل أماميّ لعرض ما راحت تنتجه من أصناف :الرولو، السابليه، البول، والترانش، فضلاً عن قوالب المناسبات، والبوش دونويل، وثانٍ خلفيّ لمشغلها.

الباتيسري ستلازم هذا المكان حتى الإنتقال إلى المبنى الجديد الذي شيّد عام 1985بعد شراء الأرض (التل). لكن المحل القديم سيتحرر بعد انتهاء السنتين من المعمل الذي كان خلف الستارة، وانتقل في المدة الفاصلة بين التاريخين، أي من 1977 حتى 1985، الى منزل بولس اسحق معوض، قريباً من مطبعة القارح. أمّا العنوان الصيفيّ فكان ثابتاً ومضموناً: المبنى الملاصق والتابع “لأوتيل بالابس”. 

نجلها البكر جوّاد سيرتدي مريول العمل الأبيض، عام 1979، حين كانت الباتيسري لا تزال في شارع الساحة، في زغرتا. أمّا نجلها الأصغر بدوي الذي كان يمتلك محلاً لبيع قطع سيارات “رينو” فسيلتحق بدوره بالركب، عام 1988، ممهداً بذلك السبيل لزوجته السيدة كاتيا، ولإبنه شربل، للدخول على خط المساعدة، في مرحلة متأخرة من العمل الأُسرَوي، وتأميناً لمتطلبات الإستمرار في مواصلة سيره. خصوصاً في فصل الصيف، حين تستدعي الأمور فتح أبواب الفرعين، في كلّ من زغرتا وإهدن، في نفس الوقت.  فيما كان “أبو جوّاد”  قد أخذ على عاتقه حال انخراطه في المعمعة اليومية للعمل تأمين اللوازم والإحتياجات من متجر ابراهيم صفير في زوق مكايل، بعد عبوره للحواجز الفاصلة بين المناطق زمن الحرب.

بولادة فكرة معرض الباتيسيريات السنوي في بيروت (أوريكا)، عام 1994، سينفتح أمام “أم جوّاد” وأسرتها باب التواصل مع “شيفين” فرنسييّن معروفين هما “شارل سيفا” و”إيف تروييس”. وبخاصة مع الأوّل الذي سيمضي شهراً في ضيافتهم عام 1997. وهو لن يخفي إستغرابه لصغر حجم قطعة الكراوسون التي راحت تنتجها “أم جوّاد”، مقارنة مع تلك الشائعة في فرنسا، قبل ان يغيّر رأيه بعد تذوّقها، وتمتّعه بطعمها. عندها سينصحهم بضرورة الإبقاء عليها كما هي، شكلاً ومكوّنات، وبخاصة على طعم زبدة “التريو” التي لم تعد متوفّرة حاليّاً في الأسواق. و”سيفا” سيكون شاهداً على وسع دائرة التهافت اليوميّ على “كرواسون أم جوّاد”، وعلى بلوع المبيعات زهاء ال 3 آلاف قطعة يومياً، وعلى انهمار الطلبيات على افراد الاسرة، وعلى معاونيهم، من الأبواب، والنوافذ، والهواتف، وعلى تحديث ماكينات وتجهيزات معملهم، مواكبة للتطوّر في مضمارهم الصناعيّ.

A group of people posing for a photo

Description automatically generated

والأهم أنه سيكون شاهداً على حكاية هذه المرأة التي بارك الله جهدها وهي تعجن، وتخمّر، وتحضّر الزبدة، وتقص العجين، وترقّ، وتلفّ، قبل أن تدفع صواني الكرواسون إلى الفرن، صينيّة تلو الآخرى، فيما الزبائن يتدفقون من زغرتا والجوار، ومن أهالي إهدن والمصطافين، للظفر بما يستحقّ عناء الإنتظار، من أطايب ما تصنعه يداها. التارت، الدوناس، الميل فوي والبايا أوروم، وسواها الكثير ممّا أضيف إلى قائمة الأصناف المنتجة كان يمكن أيجاد ما ينافسها في الباتيسيريّات الأخرى التي تعاقب تأسيسها، ساحلاً وجبلاً، اما الكرواسون فسيحتفظ، بفضل “أم جوّاد”، وبلمستها، ونَفَسها، بطعمه الخاص، والمميّز. 

هذه المرأة التي كانت تقابل كل من يدخل ويخرج بإبتسامة راضية، ولمسة حانية، ومجاملة رقيقة. وفوق كل الجهد المنهك المبذول تطبخ، في الوقت عينه، في حمأة عملها، لتأكل العيال، ويأكل العمّال، قوت يومهم. 

A group of people standing in front of a doorway

Description automatically generated

وظلّ هذا شأن “أم جوّاد”، حتى تقاعدها، عام 1998، وإخلادها إلى الراحة والإسترخاء في منزلها. ونظرها بعين الرضا إلى نجاحها في شقّ طريق الحرفة المُرْتَزَق منها لأسرتها، وتأديتها لدورها في الحياة بضمير مستريح.

“Zghartapedia” محسن أ.يمين