أوتيل أبشي    

اذا كان أوتيل أبشي يبدو كمحور الدائرة في حارتنا بضخامة حجمه، واتساع مساحاته المتمّمة، قياساً الى فنادق الثلث الأول من القرن العشرين، ما حثّ مؤسّسوه على تسميته، وبحقّ، بـ “الكبير”، فهو فرض حضوره، وكثافة وجوده، على كامل المشهد الإهدني منذ قيامه. بحيث بات من المتعذّر أن تُلتقط للمدينة صورة، بدون أن يلوح هو، رابضاً على رأس المرتفع الذي يحتلّ، متغاوياً بإشرافه على كامل الفضاء البانورامي، من الجهات الأربع. وهي ميزة لم يسلبه اياها تكاثر العمران رغم توالي العقود على إنشائه، أسوة بفندقي “بالاس”، و”بلمون”

وقد حملنا على الظنّ طويلاً بأنه فتح أبوابه عام 1933، استناداً الى التاريخ المثبت فوق مدخله القديم. وهو ظنّ لا يسري على الذين شبّوا وشابوا في جواره، على غرارنا، إنّما يسري ايضاً على ورثته الحاليين، أحفاد سركيس أبشي الذي كان يروي في الحارة، أنه عندما عاد الى لبنان، عاد ومعه “الذهب في الدلاء”. وقد يكون هذا التاريخ هو بالفعل تاريخ الإنتهاء من تشييده. لكنّه لم يُدشّن إلاّ بعد ظهر الأحد في 28 تموز 1935،  بحسب ما تظهره الصحف التي تحدّثت عن حفل تدشينه الذي تم برعاية محافظ الشمال، وبحضور المطران عبدالله الخوري، وقائمقام القضاء، وحاكم الصلح، وقائد الدرك، وعدد واسع من “الأعيان”. فيما كانت أنوار الكهرباء تشّع، والشرفات مزدانة بالأعلام اللبنانية، والفرنسية

يومها حرص مديره يوسف الذوق على دعوة صحفيي العاصمة، ومندوبي الصحافة في الشمال فلم يفوّت المناسبة لا الشيخ فؤاد حبيش، ولا الشاعر خليل أيّوب الحتي، ولا فوّتها أحمد دمشقية، وجوزيف عقل، وفرنسوا خوري وسمعان زخريا. وكان من الطبيعي أن يحضر أصحاب الصحف في الشمال كـ “صدى الشمال”، و”الدفاع”، و”الليل”، ومندوب جريدة “الحوادث”. وقد استقبلت إدارة الفندق الحدث السياحي بنشرها إعلاناً عن الأوتيل في مجلة “المعرض” البيروتية المتألقة لمنشئها ميشال زكّور، مشدّدة على إحتوائه 50 غرفة، لكل غرفة حمّام خاص، تجري فيه المياه الباردة والحارة، وعلى قاعات رقص، وأوركسترا كاملة، وتنس، وسينما، وراديو، وتلفون. ولم تكن هذه المواصفات، في هاتيك الأيام، بالمواصفات العابرة، او العادية، لفندق يبعد 110 كلم عن بيروت، بقياس طرقات اليوم، فكيفك بطرقات ذلك الزمان التي كانت تتعرّج، وتلتوي، وتحور، وتدور، صاغرةً أمام تضاريس الجغرافيا الجبلية، في غياب الجرّافات، والآليات المطوّعة الآن لأكثر المرتفعات عناداً، وصلابة؟

وقد تطلّب بناؤه، بحسب ما يرويه العارفون، تعاون نحو 30 “معمرجياً”، بإشراف المعلّم بربر طيّون، على مدى سنتين. وقد استقدمت حجاره السمّاقيّة البيضاء من المقلع المعروف بـ “مقلع قزحيا”، الكائن حالياً بين منزل الدكتور حميد البايع، والمرحوم سيمون المصري، فنزولاً الى أوطأ، في محلة “المطل”. وهو مقلع مستنفد سبق وإعتمد عليه لبناء أوتيل “بالاس” الواقع على طريق النبع (1924 – 1925). كما سيعتمد عليه لاحقاً، لبناء كنيسة مار يوحنا – زغرتا (1954 – 1955). كي لا نأتي على ذكر العديد من البيوت المعمّرة في غضون تلك المدّة الزمنيّة

وقد شكّل محيطه فسحة امتدادية، من فسحات طفولتنا التي لم تكن تعبأ بما كان شهده من اقبال من قبل، بإجتذابه النزلاء من سوريا، والعراق، وفلسطين، ولبنان، الى صيف إهدن، ولا بكل المطربين الذين اشعلوا لياليه بأصواتهم الصدّاحة، ولا بأول راديو اشاع الأغاني في هواء الحارة الطلق، من على سطيحة الأوتيل المكتظّة بالروّاد، وبهواة التومبولا. كلّ ما كنّا نتمنّاه، حينئذ، هو أن تضرب إدارة الفندق التي تقلّبت ما بين العديد من الأيدي، وأخضعته لغير تأهيل، كي يظلّ ملتحقاً بركب العصر، والتطوّر، أن تضرب صفحاً عن لهونا، وتصايحنا، إمّا عند مدخل تصوينته، او عند مرأبه، أو تحت “الصنوبرات” اللواتي، عند مدخله الحالي، والفاصلة بينه وبين “قصر النجوم”، وأن تغضّ النظر عن لملمتنا لبقايا “الكوتيون” المتناثرة بعد الحفلات من حوله

وقد راقبنا، لاحقاً، فيما بكرة العمر تكرّ، الاستخدامات المتعدّدة لبعض جسمه الكبير: فمن صفّ حضانة فتحته أنطوانيت فيليب أبشي، في طابقه السفلي تمّ إلحاقنا به، الى سينما أنشأها جوّاد الجعيتاني، ونجله سركيس، الى مركز لتدريب راقصي الدبكة في مهرجانات الستينيّات، الى منبر للشعراء في أمسياتهم، وللأدباء في محاضراتهم، كأنسي الحاج، وأنطوان قازان، وسواهما، فإلى مدرسة لتعليم تلامذة الفرير، خلال حرب السنتين، الى إيوائه عدداً من النازحين الهاربين من نيرانها. قبل أن يخضع لآخر مشروع تأهيل، ويستحدث مطعمه “قصر النجوم” وملهى “الميدنايت”، والمسبح المستخدم حالياً في إحتفالات الأعراس

والحديث عنه يطول. لكن أعلق ما في ذاكرتنا عنه هو أن عازف الأكورديون، في أوركسترا الأوتيل، أواخر الأربعينيات، وكان يُدعى شكري موراديان، أُولع، ذات يوم، بفتاة من الحارة (ماري الرعيدي) غالباً ما كان يقع نظره عليها، وهي تمرّ حاملة صينية الكبّة لخبزها في فرن قريب. ومن طلبه الكبّة ساخنة من الصينية، بعد عودتها الى بيتها، الى طلبه يدها، تشاركا، بعدئذ، ليس أكل الكبّة، وسواها من المأكولات اللبنانيّة والأرمنيّة، إنّما الحياة بكاملها، بالقدر الذي كُتب لهما في لوح الأقدار

محسن  أ. يمّين