لوكندات زغرتا

لضرورات إدارية

قبل العام 1923 لم تكن زغرتا تحتوي على أيّ لوكندة. مع ان الحركة التجاريّة الواسعة النطاق التي راحت تشهدها منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر بعد تحوّلها الى “بَنْدر”، وفَتْح مدير ناحيتها أميِن بك طربيه (1893-1898) لسوق الساحة، وتشييده لمسلخ كبير، في محلّة “دوّار العين”، في المرداشيّة، إستيعاباً لهذه الحركة المتنامية، بفعل وقوعها على التخوم الشماليّة لمتصرفيّة جبل لبنان، فأن شيئاً من ذلك لم يحصل خصوصاً في ظل التدفّق اليومي للتجّار الآتين من عكار وسورياً، بَيْعاً لما كانوا يحملونه من حبوب، وتزوّداً بإحتياجاتهم من محاصيلها، ومنتوجات القرى المحيطة. جُلّ ما حدث أنّ تلك الحركة لم تؤدِّ سوى إلى إنشاء خاناتٍ ثلاثٍ، على إمتداد شارع الساحة: خان رشيد صوطو، أهمّ من تاجر بالحرير، حينئذ، وخان بيت بو يعقوب معوّض، و”رواقة آل غاتا”.

وكما كانت الخانات ثُلاثة في عددها، هكذا سيكون حال اللوكندات التي سيكون عددها مماثلاً. لكنها لن يتمّ إنشاؤها إستجابةً لضرورات توفير أمكنة لنزول التجّار، وزوّار البلدة، إنما لضروراتٍ إدارية فرضها القرار المتّخذ بتعيين زغرتا مركزاً لسنجق (محافظة) لبنان الشمالي، بموجب القرار 336، عام 1920، في مستهلّ الحقبة الإنتدابيّة الفرنسيّة على لبنان.

 كما فرضتها ضرورات مجابهة عاصفة الإعتراضات التي أثارها القرار الفرنسيّ في كلّ من طرابلس، والبترون، نظراً لإفتقار زغرتا، في ذلك الحين- بحسب المعترضين-إلى جملة مقوّمات يصعب ههنا التبسّط بعرضها، يأتي في طليعتها خلوّها من سرايا، ومن لوكندات لإيواء المأمورين.

سوى أنّ زغرتا، ردّاً للتحدّيات الناجمة عن القرار المذكور، ستهبّ هبّة الرجل الواحد، وتقوم بكلّ ما يترتّب عليها، جَمْعاً لأكلاف بناء السرايا، وتحسيناً للمنزلَيْن اللَذَيْن سيُقيم فيهما المستشار والمتصّرف، ولمنازل الموظّفين، ومدّاً لمياه الشفة إلى المنازل، وسَعْياً لإقناع أخوة المدارس المسيحيّة (الفرير) بتولّيهم مدرسة مار يوسف القديمة من أجل تعليم أبناء الموظّفين (في وقت كانت مدرسة راهبات المحبّة تؤمّن حاجتهم لتعليم بناتهم)، ومن ثمّ، تداركاً لأحوال الطرق.

وهي لن تتأخّر في تأليف لجنة دعُيت “لجنة السرايا” من أجمل الإمساك بملفّها، من ألفه إلى يائه. وفي 8 حزيران سنة 1922 بدأ حفر أساسات البناء. وبدل أن تُراعى المدّة المحدّدة لإنجاز البناء بثمانية عشر شهراً، سيتمّ إنجازه في سرعة قياسيّة لن تتعدّى الأربعة أشهر (من 8 حزيران الى أواخر صيف 1922). المتصرّف والمستشار إنتقلا إلى زغرتا في 28 إيار 1923.

السرايا أصبحت جاهزة بمفروشاتها في مطلع 1924. محكمة البداية نُقلت من البترون إلى زغرتا. ومن ثمّ، حَدَث ما لم يكن في الحسبان. فبينما كان كلّ ذلك يتمّ في ظلّ حاكم دولة لبنان الكبير القومندان ترايو، إذا بالمسيو كايلا يحلّ محلّة، ويضرب بالقرار 332 عرض الحائط، بإصداره تشكيلات إداريّة جديدة تَقْضي يجعل زغرتا مديريّة، بدلاً من محافظة، ومحكمةً صلحيّة، بدلاً من محكمة بداية. الأمر الذي سيؤدّي إلى موجة إحتجاج زغرتاويّة عارمة ستُقابل بتعنّتٍ فرنسيٍّ، ما أنذر بنشوب مواجهة كادت تكون دامية بين الطرفين، لولا تدخل العقلاء من أعيان بيروت الذين هبّوا لنجدة زغرتا، وحؤولهم دون حدوث ما لا تُحمد عُقْباه. وقد ضاعت آمال زغرتا رغم تأييد الصحافة اللبنانيّة لها في موقفها. 

 وجلّ ما غنمته البلدة آنذاك كان تحقيقها لإنجازين: بناء السرايا، وإنشاء لوكندات ثلاث.

  لوكندة معوّض

ففي موازاة أعمال بناء السرايا، وها إستدعته من إستنهاضٍ لهمم الزغرتاويّين، مروراً بكل ما سبقها ولحقها، بادر عدد من الأهالي إلى إنشاء ثلاث لوكندات، على إمتداد شارع الساحة، بما يستكمل المجهود الزغرتاويّ العام المبذول في سبيل الوفاء بمتطلّبات فعاليّات البلدة، ومقوّماتها، كمركز للمحافظة. فجاءت اللوكندات متساوية بعددها مع عدد الخانات المار ذكرها التي كانت قائمة من قبل. 

فمن الشمال الى الجنوب ستقوم أوّلاً لوكندة يوسف سمعان معوّض (مقابل ثانويّة زغرتا الرسميّة حاليّاً)، ولوكندة بربارة طيّون الجرّ الدويهي (مقابل فوتو رودريك)، وغالب نزلائها كانوا من تجّار الزيت لتعماملهم، بشكل أساسي، مع تاجرَيْ الزيت مخايل الحايك وعسّاف أبو النعم، ولوكندة فرنسيس ضوميط بشارة القريبة من ساحة التلّ.

لوكندة بشارة

لكن لوكندات زغرتا، خلافاً لما كان عليه الحال في لوكندات إهدن التي سبقت قيام أوّل بانسيون، ومن ثم، حركة نشوء الفنادق، لم تأتِ تلبية لحاجة سياحيّة في بقعة إصطافيّة مقصودة، إنمّا مواكبةَ لضروراتٍ إدارية أمْلَتْها الارادة الفرنسية في أوّلَ عهدنا بالانتداب قبل أن يؤدّي تبدّل الحاكم إلى تبدّل الأحكام. لذلك فهي لن تشهد الإقبال المأمول. وهي ستظلّ تفي بالغرض من قيامها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.  

لوكندة الجِّر الدويهي

  كما أن هناك نقطة تمايز أخرى لها عن المنشَآت السياحيّة في إهدن. فبينما وُلِدَت منشآت اهدن بالتتابع الزمنيّ، منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا، فلوكندات زغرتا، تزامنت ولادتها ثلاثتها معاً، طالعةً من رَحَم القرار 1920/336 الذي لن يتأخّر إجهاض مولوده.

محسن أ. يميّن

لِ “ZghartaPedia”