أغنى ملحمة الهجرة
يعتبر المغترب في فنزويلاّ المرحوم الصايغ أحد ألمع المغتربين الزغرتاوييّن الذين أغنوا ملحمة الهجرة اللبنانية بسيرتهم المضيئة، وأقبلت عليهم الدنيا بعد قلّة، وأصابوا النجاح بعد طول جهاد ومشقّة
كما يُعتبر نموذج المغترب الدائم الحنين إلى أرضه الأمّ، الدائم البَسْو لكفّه داعماً في مسقط رأسه: زغرتا – إهدن مئات العائلات المعوزّة، وعشرات المؤشَّسات الإجتماعيّة والإنسانيّة، وتتويجه عطاءاته العامة التي بدأها بتقديم سيّارة دفن الموتى إلى رعيّة إهدن-زغرتا، وأكملها بتأهيل ساحة الميدان في إهدن، وبناء قاعة مار يوسف – زغرتا، وتوفير مركز للصليب الأحمر اللبناني في إهدن، وأنهاها ببناء كنيسة مار مارون في محلّة العقبة في زغرتا، على نفقته الخاصة، ليتكرّم عليه البابا بنديكتوس السادس عشر، على إثرها، بوسام بابويّ رفيع
وسام القدّيس عزيغوريوس الكبير، كعربون شكر على عطاءاته العديدة
أبصر ميشال الصايغ النور في زغرتا في 7 آب 1928، ونشأ في بيت كريم تحت سقف والد شجاع هو فؤاد الصايغ الذي كان في عداد قافلة القمح المباركة التي خفّفت من ويلات المجاعة، على ناحيته، خلال الحرب العالميّة الأولى، جنباً إلى جنب البطل سركيس نعّوم، وسائر أفراد القافلة الباسلة، ووالدة فاضلة هي وداد سليم فرنجيّة. مع أشقائه يوسف، الياس، موريس، فوزي، حميد، ألفراد، جوزيف، هنري وفيليب، وشقيقته نهاد (زوجة حليم بريص فرنجيةّ التي أنفقت على بناء قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان في زغرتا)
المرحوم فؤاد الصايغ
هاجر عام 1949 إلى فنزويلا، وهو إبن عشرين، ملتحقاً بأخيه إلياس في كاراكاس. وقد ذكر الصحافيّ “عمر بيريس” الذي وضع كتاباً عنه:” شهادات حياة/ ميشال الصايغ” (نقله إلى العربيّة “سركيس فرنجيّة”) أن حوالى أربعين شخصاً، بين أهل وأصدقاء، كانوا قد رافقوه الى ميناء بيروت لتوديعه، وتوديع صديقه محسن سمعان يميّن الذي كان معه على متن الباخرة الإيطاليّة “لوغانو”، في سفرة دامت شهرين
وهو كان استعمل كفاحه في الحياة، قبل هجرته، ببيع الجبن والزبدة والقشدة، ثّم بالتمرّس على قيادة شاحنة يملكها شقيقه الأكبر يوسف وبيع ومقايضة البضائع على مداخل المعسكرات الانكليزيّة، وبعدئذ، بالتعاقد مع تاجر يملك شاحنة “دودج فارغو” يستعملها لنقل الرمل والحص الى بلدة مزيارة القريبة من زغرتا، وبإستخدام سيّارة “دودج فارغو” قديمة عائدة لأحد أخوته في رحلات نحو سوريا. كما عمل سائقاً لدى وزير الماليّة محمّد العبّود
في فنزويلا سينطلق بعمله مستخدماً شاحنة “دي سوطو” يملكها سقيقه إلياس. وسيعمل ليلاً نهاراً. ويجوب كل أنحاء البلد المضيف متعرّضاً للمخاطر، متغلباً على الصعوبات. قبل أن يشرع في خوض غمار المقاولات
وستكون شركة Misayca أوّل شركة بناء يديرها الصايغ – تلخّص أحرفها إسمه وكنيته – في إنشاء سدّ كالابوسو، في بداية الخمسينيّات، من القرن الماضي: وهي ستلعب دوراً هاماً في شق العديد من الطرق، في مختلف ولايات فنزويّلا
وبمحض المصادفة سيلتقي بسيّدة زغرتاويّة فاضلة تقيم في قرية مارغيوتار منذ وقت طويل. ينادونها “دونا ماريا” إحتراماً لها لنذرها نفسها للعمل الإنساني، ولتوصّلها إلى تبنّي وتربية ثمانية أطفال، وتحمّلها بمفردها كافة نفقات دراستهم حتى تمّ تخرّجهم من الجامعات. كما لو كانوا من رحمها
وعام 1955 ستصبح إيفون البايع شريكة حياته. وهو سينجب منها: فؤاد، لميا، ماغالي، ونيلسون. وستكون له عوناً وسنداً في كفاحه المغني الذي قاده إلى شق الطرق والمدارج والجسور والسدود في المناطق السهليّة، منعاً للفيضانات، وحمايةً للمحاصيل الزراعيّة والحيوانات ، وحفاظاً على الثروة الوطنية. كما قاده إلى استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي كي تستوعب الآلاف من الفنزويلّيين الذين كانوا بلا مأوى، وبلا أرض يزرعونها، وإلى تجفيف البحيرات والمستنقعات لتتحوّل إلى ملاعب وحدائق
الصايغ مع عائلة البايع
وقد نوّه “ماريو سيرفليوني” بمساهمة الصايغ في تحسين وتجميل براري فنزويلا وغاباتها بما أحدثه من تغيّرات، مفسحاًبذلك المجال أمام التقدّم والتطوّر الإقتصادي، زارعاً المحبّة والصداقة. أمّا “عمر بيريس”، فسينقل عن إبن مدير مستشفى غواسدولينور قوله ان المقاول ميشال الصايغ ما زالت عواطفه وقلبه في تلك المنطقة، وإنه يعود إليه الفضل الأوّل بشقّ هذا الطريق وتعبيده مما يسّر للأهالي نقل الأبقار والمنتجات إلى منطقتي باريناس وسان كريستويال. كما تابع يقول إن السكاّن القدماء في تلك السهول ظلوا يتحدثون طويلاً عن ميشال الذي أمضى عشرين عاماً من عمره في تلك البقاع، وإنهم لن ينسوه أبداً
وقد شاءت العناية الإلية أن تنقذ ميشال الصايغ من حوادث عدّة فكتبت له النجاة أولاً من عضة خفاش تؤدي الى نزف شديد، ثم من حادث كاد يتسبب به حصانٍ يعدو بمرعة فيما كان هو يهبط بسيّارته من مرتفع، والضباب يعمّ الطريق، وذلك بعد دفعه الأجور للعمّال، على عادته كل يوم سبت، ومن شاحنة كان وضع نفسه تحتها لمعرفة سبب عطلها إصابته بجروح بالغة إستلزمت بقاءه في المستشفى أشهراً عدّة، مُجصّصاً حتى استعارته لعافيته. وأدهى هذه الحوادث كان حين تعطّل محرك طائرة كانت تقلّه مع أحد المدراء الفنيّين وسقطت في مستنقع قرب منطقة بروزوال، في ولاية أبوري. وقد أستطاع سكان المنطقة، بعد جهد جهيد، من إنشاله مع كافة مرافقيه من الطائرة المعطوبة. لكن الجروح البالغة والكسور في ذراعيه وعموده الفقريّ وإحدى ساقيه استدعت معالجته في نيويورك وملازمته لغرفة العناية الفائقة، طوال سبعة أشهر، وزوجته إيفون قربه، ليلاً نهاراً
عام 1998، قرّر حل شركة ميسايكا، وشراكته مع “بيلباو”، والتقاعد والاستراحة قرب العائلة والأحفاد.
وفي شهر جزيران من العام 2016 نقله الله إلى جواره، بعد طول بذل لما جاد به عليه من خيرات
محسن أ.يميّن
لِ “ZghartaPedia”