كانت مهرجانات اهدن السياحية في ستّينيّات القرن الماضي، تفتح لنا باباً واسعاً للخروج من المألوف اليومي لمعانقة المتعة، و الإثارة، والدهشة. ولكُنّا إحترنا الى أي صوب كان يتوجّب ان نوجّه خطانا تتبّعاً لوقائع أسبوعها المزدحم بالمواعيد، لو لم يكن برنامجها يُعدّ بالتتابع الزمني لساعات نهاراته، و لياليه
وكي لا يفوتنا شيء من عروضها، كنّا نوزّع خطانا، تبعاً لخارطة توزّع أنشطتها. ليس كل انشطتها بالطبع، وهي كانت وافرة للغاية، انّما تلك التي كانت تستأثر باهتمامنا. لذلك كان يتلاحق سلوكنا لواحد من هذه الوجهات الثّلاث التي كانت مسرحاً لمعظمها، في النهار الواحد: الميدان، شارع المغتربين، وحمَيْنا، لعدم اكتراثنا، في سنواتنا الغضّة تلك، بما كان يقام من أمسيات شعرية، ومحاضرات، وندوات. والتي كانت خارطتها أكثر توزّعاً، في أي حال، على شبكة الفنادق والمطاعم العاملة، حينئذ
الميدان كان نقطة الجذب الرئيسيّة. فهو المكان المحتضن لإنطلاقتها، ولعروض الإفتتاح التي كانت تجري وسط الحشود الشعبيّة العارمة. فيدشّن الحَمام الذي يتم تطييره، من قبل القائمقام، اسبوع البهجة ذاك، بأجنحته المحوّمة فوق الرؤوس قبل أن يحُطّ على أغصان أشجار الدلب، وفوق السطوح. وتتعالى معزوفات الفرقة الموسيقية، فيما يجري استعراض الأندية الرياضية بلباس الملاعب، والفرق الكشفيّة، وفرسان العذراء، والأزاهير. وتنعقد حلقة الدبكة الإهدنية مؤدّاة بقامات وأقدام مجموعة من الراقصين النادرين، المشحونين حماسةً، وعنفواناً، ورجولةً، على وقع الطبول، والمزامير، والزّغاريد التي تثقب الآذان، وتشقّ عنان السماء. فيما الجموع تبتلعنا في خضمّ موجاتها البشرية، ولن تلفظنا من جوفها، كما لفظ الحوت يونان، قبل انتهاء فعاليّات المهرجان. فلا يعود يتحرّك منّا سوى نواظرنا، ووجوهنا وهي تميل يمنةً، أو يسرةً. اما الذي كان يجازف منّا، وينسلّ من بين الأبدان المتحاشرة، وقوفاً، والمزنّرة بصفوفها المتراصّة للساحة، لقضاء حاجة منّا، فكان يتسبّب بتفجّر الغيظ، وهو يجاهد متعثّراً للتفلّت من الأسر. ويتكرّر ما يستثيره من عياط وحنق، حين يعود للإنضمام إلينا، لدوسه على الكثير من الأرجل، والأحذية، وتحويله لإنتباه المتفرّجين
وكان الذين يحتلّون شرفات الفنادق، والبيوت، هم الأكثر قدرة على متابعة الوقائع، من مواقعهم المشرفة. ويليهم حظوظاً الأولاد الذين يفلحون في أخذ أمكنة في مقدّمة الكتل الجماهرية المتجمّعة. فأولئك كانوا، هم ايضاً، يستمتعون بالمشاهدة، ولا تعترض قامات البالغين مجال رؤيتهم لما كان يدور. سوى أن تأمين المطارح لم يكن يمرّ دوماً بسلام، بل كان يتسبّب باندلاع عراك هنا، أو هناك، سرعان ما يتدخّل الكبار، لفضّه، وإعادة الهدوء اللازم للإحتفال الجاري
وهناك في قلب الساحة المكتظّة، كنّا نعاين أيّة نتائج كان يمكن ان ينتهي اليها تدريب شبّان نعرف بعضهم، ولا نعرف البعض الآخر، للقيام بحركات سويديّة، أو بألعاب قفز، وجمباز، أو بناء أشكال هرمية بأجسامهم الفتيّة. وهناك كانت ترتسم على وجوهنا أمارات الدهشة ونحن نراقب المقدرة البدنيّة الفائقة التي كان يتمتّع بها سليم الحرّاق، وهو يرفع الأثقال، وفي عدادها طاولة كبيرة، بأسنانه. في مقابل تعالي ضحكنا ونحن نشاهد التسابق قفزاً بأكياس “الجنفيص”، أو التباري في سرعة إلتهام أكبر كمّية من “المهلّبيّة”، وسرعة شرب أكبر كميّة من المرطّبات. ويبلغ ضحكنا ذروته حين يأتي دور سباق الحمير، ويحرن بعضها ممتنعاً عن التقدّم خطوة الى أمام، رغم انهيال الذين كانوا يمتطونها بقضبان التوت عليها، فتروح تلك الحمير تدور على نفسها، مدوّخة أصحابها، أو مستعيريها، مثيرةً القهقهات، والهيصات، والصفير فيما يتابع سواها من الحمير السباق الى آخره
ويمكن ان نضيف الى هذه القائمة السريعة المقاومة، وفي داخلنا، لممحاة الوقت الذي مرّ، سباق الدّرّاجات الهوائيّة، ومباراة طاولة الزهر التي رسمت خطوطها وخاناتها الكبيرة، في منتصف السّاحة، وشكّل الفتيان والفتيات المشاركين في المهرجانات، أحجارها، وإنتهت بفوز سمعان العريجي المعروف، لظرفه، بـ “شيخ اهدن”، على بولس دحدح، و نشرت “الأوريان” صورة عنها على صفحتها الأولى، في اليوم التالي
كان ذلك ما يعنينا بصورة خاصّة من أيّام مهرجانات السّتينيّات، في ساحة الميدان. إنّما ليس كلّ السّاحة. لأنّ غالب ما كان يستهوينا كانت تجري وقائعه في وسطها، فنزولاً الى أوطأ. لأنّ الجزء الأعلى من الميدان كان مخصّصاً لمنصّة الزجل، وهي عينها منصّة التباري بدقّ الكبّة بين مجموعة من النساء اللواتي طارت لهنّ شهرةً، في إعداد الكبّة،”مسامير ركبنا”، أو في حياكة سلال القصب التي كانت حرفتها من الرواج عندنا بحيث بلغ عدد المشتغلين بها، آنفاً، ال110، فعلى جلالة شأن كل منها فهي لم تكن تختطف منّا سوى انتباه عابر. وقت لم يكن يغيب عن أنظارنا تحوّل “بانسيون زخيا” الى خليّة نحل، بل الى غرفة عمليّات كبيرة، للجنة المهرجانات، وللشّبّان، والشّابات، المندفعين، الساهرين على حسن إدارة الأنشطة، وعلى التنظيم
ولكم كان يلفت الإنتباه مشهد الجماهير المحتشدة التي استغرق بلوغها الساحة، سيراً على الأقدام، وقتاً طويلاً، وعلى شكل موجات متلاحقة، وهي تخليها بلمحة بصر، إثر إنتهاء العروض، سالكة، في عودتها، الطرقات، والمسارب، والتفرّعات، و الأدراج، عينها، التي اجتازتها للوصول الى الميدان. و فيما كانت السّاحة التي أدرنا لها ظهورنا للتّوّ ترتاح من وطأة الجماهير، استعداداً ليوم فرح آخر، من الأيّام المثيرة هاتيك، كنّا نحن نجدّ السير صعوداً نحو حارتنا، المسمّاة “الحارة الفوقا”، ولا نُطيق صبراً على الموعد التّالي في المهرجانات، في شارع المغتربين، وحمَيْنا
محسن أ.يمّين
مهرجانات إهدن -2
ساحة الإستقبال الثانية لفعاليات مهرجانات اهدن- الزاوية السياحية، في النصف الأول من الستينيّات، بعد ساحة الميدان، كان “ملعب التنس” في شارع المغتربين. ونشاطاته، كسائر النشاطات، كنا نستعلم عنها من ذوينا. أمّا التنقّل فيعتمد على سيقاننا المسابقة للريح. فرشاقة العصافير لم تكن قد هجرتنا بعد. وازدرادنا لأكلنا كان يتمّ بصورة عجلى، محمومة، ووقوفاً اذا اقتضى الأمر، كي لا يفوتنا شيء من المتعة
وبأي حال، فالملعب المذكور على بعد “بيت مسبحة” من حارتنا. تعود ملكيته الى صاحب محل الحلويات في اهدن، وطرابلس، سابقاً، سركيس الدويهي. والمار بجانبه، في هذه الأيام، يلاحظ انه سُيِّج مؤخراً، بعدما أُهمل طويلاً كان خلالها يتحوّل الى حلبة لسيارات الدفع الرباعي خلال فصل الشتاء التي يمعن أصحابها في الخوض في ما يتجمّع على ارضه من ثلوج، ومياه، وأوحال
هذا الملعب المعدّ أساساً للعب كرة المضرب كانت لجنة المهرجانات توسّع نطاق وظيفته بتحويله الى ملعب للتباري برياضات كرويّة متعدّدة: كرة السلّة، كرة الطائرة، كرة الطاولة، فضلاً عن كرة المضرب، بطبيعة الحال. حتى ليخامرك الظّنّ بأنه لولا توفّر ملعب حمينا الأوسع مساحةً، واستيعاباً لمباريات كرة القدم، لكانت اللجنة ربّما أضافت الميني- فوتبول الى البرنامج المشغول بعناية فائقة. كي لا يُترك صنفٌ من الإهتمام غير ملحوظ، او شريانٌ من شرايين اهدن، أو مرفقٌ من مرافقها، لا تُضخ فيه العافية، والحياة، او يضجّ بالحركة، والهتافات
وكان الهدف الأساسي من وراء المهرجانات ليس الوصول بها الى ما إرتقت إليه من روعة، على جلالة هذا الأمر، ولا جعلها حديث الأوساط الفنّية والصحفيّة والحكومية، على أهمية ذلك، إنّما حضّ الناس على التقارب، وتجاوز الإنقسامات، والتخلص من رواسب الماضي القريب، وخلع ثياب الحداد، حتى آخر زر
وكان بيت الكهنة، وبخاصة منظّره، وعقله المدبّر، ولولب حركته الأب هكتور الدويهي (المطران لاحقاً) يريد، اياً كانت الصعوبات، والعراقيل، ان تخرج من داخل أروقته، صورة زغرتا – اهدن الجديدة، خروج العروس التي طال تأجيل زفافها. فزغرتا، وفقاً لما نصّت عليه وثيقة تأسيس “حركة زغرتا الفتيّة” التي أطلقها بيت الكهنة، “صاحبة رسالة الى لبنان والعالم، وهي غير رسالة العنف والإنشقاق والتأخّر العمراني”، وهي”أخت وصديقة وجارة رضى لكلّ جماعة من جماعات لبنان”. وقد نجحت اللجنة بالفعل في جمع الناس. وكان ملعب التنس أحد أمكنة التلاقي، شأنه في ذلك شأن ساحة الميدان، وحمينا، وشأن المطاعم، والفنادق، وسوى ذلك من الأمكنة
وهو، أي شارع المغتربين كان أضحى جزءاً من شبكة طرقات اهدن، منذ مطلع الخمسينيّات، وجرى شقّه بموازاة “حارة الأروام”، تكريماً لمغتربينا في المكسيك. وكان آنذاك، يبدأ من فيلا انطوان اسحق معوّض التي آلت بالشراء الى سركيس شلهوب، وينتهي عند مبنى الكبرى الأثري. امّا الجزء السفلي منه الممتدّ من دارة شلهوب نزولاً حتى مستديرة قصر الرئيس فرنجية فقد إستحدث لاحقاً بعد شقّ طريقه الواسعة التي زادت قامة الشارع طولاً. وحركة العمار التي تلاحقت على جانبيه، لن تُشرّع أمامها الأبواب، قبل تشييد يوسف اسحق معوّض، لبنايته، عام 1972، وتشييد شقيقه حميد، من ثمّ، لمبناه. لتكرّ، من بعدها السبحة
وكان عدد الذين يرتادون هذا الملعب محدوداً لقلّة ممارسي هذا النوع من الرياضة بيننا، وعدد المهتمّين، والفضوليّين، الذين يتابعون وقائع المباريات الحبّية، أو التمرينات، في الأيّام العاديّة، كان محدوداً، هو ايضاً
اما في اسبوع المهرجانات فكان منسوب المتقاطرين اليه يرتفع، ويفيض. انما دون ان يصل، في احسن حالاته، الى عشر معشار جمهور حمينا، لجماهرية لعبة كرة القدم عندنا
وكانت سيارات ذلك الزمان، متى بلغت ملعب المغتربين، وقت المباريات، تتمهّل، وفي بعض أحايينها، تتوقّف، قبل العبور من صوب، الى آخر،كي لا يدهس سائقوها احداً من المتفرّجين الذاهلين عن مخاطر الطريق، بما كان يجري على أرض الملعب. فشارع المغتربين كان يعجّ بالحركة، من دون مباريات. وبحصولها، وإجتذابها للمشجّعين، كانت نسبة الحركة تعلو. ولو كان صاحب مطعم ومقهى “البلانش نيج”، الواقع قبالة منزل النائب سليم بك كرم، سعاده الشدراوي، أو صاحب مبنى وسينما الحمرا يوسف قبلان معوض المجاور لدارة شلهوب، ابكرا قليلاً في مشروعهما اللذين ساهما في مضاعفة حركة الشارع، لكان الأمر تعقّد أكثر، خلال
المهرجانات ويتعذّر على كل من انغمس في قلب كل تلك العجقة المحبّبة التي كانت تزيد قلب الشارع خفقاناً، وكل تلك الحيويّة المتفجّرة في المباريات، بالكتابة الورقيّة، والإلكترونيّة، وكل تلك الغبطة التي كانت تضرب نطاقاً حول الملعب، لأن المتفرّج لا يمسك سوى بطرف من المشهد، ولأن الحياة أغنى من النصّ
يبقى ان نقول انه في ايام الشمس الساطعة لم يكن هناك من سبيل للوقاية الا بالقبعات، او بظلال الجوز الحامية لزاوية من زوايا الملعب. لذلك فإن خير الأوقات، أوقات المباريات، كانت تلك التي يزحف فيها الضباب حاجباً الشمس، متكاثفاً تارةً، منقشعاً، تارة اخرى. عندها كان التعرّق يقتصر على الرياضيين المتنافسين، ونسلم نحن
وكان غروب شمس نهار من نهارات المهرجان لا يعني ان البرنامج سوف يستكمل في اليوم التالي، بل كانت شمس اسبوع المهرجان تشرق ليلاً في السهرات الراقصة، داخل الفنادق، كما تشرق بصورة خاصة في حمينا، من خلال الأضواء الكاشفة للّيالي الفولكلورية الموزّعة في كل الجهات التي كانت تحوّل بعضاً من ليل حمينا الى نهار
محسن أ. يمين
مرجانات إهدن-3
لم تتضاءل في مخيّلتي بعد الليالي الفولكلورية في مهرجانات إهدن الستينيّة رغم ابتعادها في الزمن. فصغر سنّنا لم يكن يحجب عنّا حقيقة إننا كنّا أمام أعمال مسرحية غنائية تتطلّب شهوراً من التحضيرات، والإستعدادت، ومجهوداً جبّاراً. يبدأ في إعداد النصّ، والموسيقى، ويمتدّ، ليشمل الممثلين، والمغنّين، والراقصين، ومعدّي الأزياء التراثيّة، وتهيئة المكان، وتحديداً أيّامها الثلاثة المتتابعة ضمن برنامجها الأيلولي. فضلاً عن الحملة الدعائية، وكتاب المهرجانات السنوي المتقن
وكان الشاعر أسعد السبعلي الذي كتب نصّها الأول (حكايات من الجبل)، عام 1962، والشاعر يونس الإبن الذي كتب النصّين التاليين (مسبحة ستي، وهاك الغريبي) عامي 1963 و1964، يبرّعان في استلهام كفاح الأسلاف الذين سبقونا الى العيش على هذه الأرض الطيّبة، واستحضار معيشتهم اليوميّة، عاداتهم وتقاليدهم، تمسّكهم العميق بإيمانهم، وعزّتهم وعنفوانهم، ممجدّين إنتصار الحبّ على كل أشكال الإنقسامات. والموسيقار وليد غلميّة المطل على تجربتنه الفذّة، من بوابة مهرجانات إهدن، يُراعي روح الأصالة في وضعه لموسيقاه المتوافقة والنصوص المتألّقة. وجورج خاطر يجتهد لإبهارنا بأضوائه المتعدّدة الألوان، الموزّعة تارة على الخشبة، وطوراً على أشجار الجوز المحيطة بالمسرح، حيناً على الممثّلين، وعلى حلقات الدبكة، وحيناً آخر على الجبل الواقع جنوبي حمينا، والمشكِّل خلفيّة للمسرح. ومكبّرات الصوت تُساهم في توسيع رقعة وصول الأغاني، والحوارات المسرحيّة، والإيقاعات الراقصة، وهتافات الجمهور الواسع، وزغاريد النساء. والمخرج انطون كرم يندفع لإيجاد سياق مترابط، وجذّاب
وآماليا كعدو التي لم تكن ترتاح لأداء الراقصين والراقصات إلاّ بعد أسابيع من التمرينات في أوتيل أبشي. وأصوات جوزيف مخلوف، إيزيس ضاهر، ماري بشارة، سامية كنعان، لبيبة غسطين القوّال، وسليم الجردي، يتلاحق صُداحها بالألوان الغنائية الريفيّة
كل تلك العوامل كانت تتضافر لتجعل الدهشة تستولي علينا طيلة مدّة الإستعراض الغنائي والمسرحي. لتلتقي مع العامل الجغرافي العائد الى ذاك المنبسط الكائن بين جبلين، المخصّص لجلوس حَمَلة البطاقات المدفوعة، والمدرّج الطبيعي الواقع الى الشمال المتروك للحضور المجّاني، والذي تحملك حفافيه على الظنّ بأن جلوله ربّما كانت مزروعة كروم عنب، أو خمائل تفّاح قبل أن يحلّ محلّها البوار. هذا المدرّج الذي كان يغرق في بحر من الجماهير الغفيرة. كل ذلك كان يجعل من حمينا مكاناً نموذجياً لمهرجانات هاتيك الأيّام، ولخلق لوحات من الجمال تتكامل فيها الفنون، وتسطع ضمن إطارها المواهب
ولَكَم كانت تحلو رؤية الناس المتعطّشين الى الفرح وهم يملأون، عند حلول المساء، منعرجات الدروب المؤدّية الى حمينا، لتصبّ أفواجهم الآتية من كل الجهات فيها، إنصباب السيول المتدفّقة في المنخفضات، بعد أمطار غزيرة. وهم يرتدون ثياباً سميكة، في الصيف، إتقاءً للبرد، ويحملون بطانيات لتغطية الأولاد، وكراسي قش واطئة للجلوس، أو قطع كرتون لوضعها على الحجارة المتناثرة في الجلول، وأكياس أكل وفواكه لإطعام الصغار، اذا لزم الأمر
ومن “سبق شمّ الحبق”. فالذين يُبكرون في الوصول لهم الصدارة في أدناها. والذين يعقبونهم، في بلوغ حمينا، يأخذون مطارحهم في الجلول التي تعلوها. امّا الذين يتخلّفون فكان يتوجّب عليهم الإرتقاء الى أكثرها علوّاً التي لن يدركوها إلّا لاهثين تعباً، إنما راضين بما سوف يمتّعون به أبصارهم وأسماعهم، بعد قليل. ولم يكن يتوجّهم في هذا المشهد الذي كانت تتراكب فيه الصفوف، على الجلول المتدرّجة علوّاً، سوى الذين كانوا يصطفّون، كالأسطر الطويلة، على امتداد طريق سيدة الحصن. ويتابعون، من فوق، وقائع الإستعراضات الغنائية. كما تتوّج سيدة الحصن هامة الجبل. مشهد تتصاعد، الى الآن، في الأذهان، أطيافه من أعماق الماضي، لتحيي الذكريات المشتركة لجموع المهرجانات
وأكثر ما كان يثير الدهشة، في تلك الليالي، بداياتها. حين كان يتعالى، من المكبّرات، صوت أحد المنظّمين، وهو يخاطب الجمهور، طالباً من كل من يحمل ولّاعة، أو علبة كبريت، أو بطّاريّة، إشعال ولّاعته، أو عود ثقاب، او البطّاريّة، بعد إطفاء الأنوار. فتلوح العتمة المتعمّدة، المخترقة بمئات، ومئات الأضواء الضئيلة، المتراقصة، وكأنها السماء، وقد رصّعتها النجوم المتلالئة، لثوانٍ، قبل ان تعود أنوار الكشّافات الى الشعشعة، ويبدأ العرض
وكانت الغبطة التي تسري في أرجاء المكان، وفي النسيم العابر، وخُصَل “الغطيطة” تجعل الحاضرين المنتشين لا يكتفون بمرة واحدة. بل يثنّون. وقد يثلّثون. وينقلون إلينا العدوى. والناس يردّدون، وهم يعودون، افواجاً تلي الأفواج، الى بيوتهم مع السبعلي: “اهدن حلوي لياليها/ محبّتنا خلقت فيها/ نحنا حكاية حبّ جديد / بكرا الدنيا بتحكيها”. ترديدهم لزلغوطة يونس الإبن الهدنانيّة
“آويها نحنا، ونحنا، ونحنا تنحنحنا/ آويها نسور نحنا، ولو قصّو جوانحنا/ آويها، لبنان عنّا بعد الله منسجدلو / آويها، وما حدا عن مبادينا يزحزحنا”
“Zghartapedia” محسن أ.يمّين